فصل: (بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابٌ فِي الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ:

قَالَ: (مَعْدِنُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ صُفْرٍ وُجِدَ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ فَفِيهِ الْخُمُسُ) عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ كَالصَّيْدِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْتَخْرَجُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِي قول؛ لِأَنَّهُ نَمَاءٌ كُلُّهُ وَالْحَوْلُ لِلتَّنْمِيَةِ وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَهُوَ مِنْ الرَّكْزِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْمَعْدِنِ وَلِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ فَحَوَتْهَا أَيْدِينَا غَلَبَةً فَكَانَتْ غَنِيمَةً.
وَفِي الْغَنَائِمِ الْخُمُسُ بِخِلَافِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ إلَّا أَنَّ لِلْغَانِمِينَ يَدًا حُكْمِيَّةً لِثُبُوتِهَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْحَقِيقِيَّةُ فَلِلْوَاجِدِ فَاعْتَبَرْنَا الْحُكْمِيَّةَ فِي حَقِّ الْخُمُسِ وَالْحَقِيقَةَ فِي حَقِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ حَتَّى كَانَتْ لِلْوَاجِدِ.
الشَّرْحُ:
(بَابٌ فِي الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ) الْمَعْدِنُ مِنْ الْعَدْنِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ، وَمِنْهُ يُقَالُ عَدَنَ بِالْمَكَانِ إذَا أَقَامَ بِهِ، وَمِنْهُ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَمَرْكَزُ كُلِّ شَيْءٍ مَعْدِنُهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَأَصْلُ الْمَعْدِنِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الِاسْتِقْرَارِ فِيهِ، ثُمَّ اُشْتُهِرَ فِي نَفْسِ الْأَجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ حَتَّى صَارَ الِانْتِقَالُ مِنْ اللَّفْظِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً بِلَا قَرِينَةٍ، وَالْكَنْزُ لِلْمُثْبَتِ فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ، وَالرِّكَازُ يَعُمُّهُمَا لِأَنَّهُ مِنْ الرَّكْزِ مُرَادًا بِهِ الْمَرْكُوزُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوْ الْمَخْلُوقَ فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِمَا مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا وَلَيْسَ خَالِصًا بِالدَّفِينِ، وَلَوْ دَارَ الْأَمْرُ فِيهِ بَيْنَ كَوْنِهِ مَجَازًا فِيهِ أَوْ مُتَوَاطِئًا إذْ لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ إطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدِنِ كَانَ التَّوَاطُؤُ مُتَعَيِّنًا، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ الْمَعْدِنِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحَدِيدِ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَهُ، وَجَامِدٌ لَا يَنْطَبِعُ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ وَسَائِرِ الْأَحْجَارِ كَالْيَاقُوتِ وَالْمِلْحِ، وَمَا لَيْسَ بِجَامِدٍ كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ. وَلَا يَجِبُ الْخُمُسُ إلَّا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجِبُ إلَّا فِي النَّقْدَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَطْلُوبِهِ بِمَا رَوَى أَبُو حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي الرِّكَازِ الْعُشُورُ» قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ: وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ نَافِعٍ وَابْنِ نَافِعٍ وَيَزِيدَ كِلَاهُمَا مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، وَوَصَفَهُمَا النَّسَائِيّ بِالتَّرْكِ انْتَهَى. فَلَمْ يُفِدْ مَطْلُوبًا. وَبِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِم: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ مَعَادِنَ بِالْقَبَلِيَّةِ» وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ، فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إلَّا الزَّكَاةُ إلَى الْيَوْمِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ فِي الْمُوَطَّإِ. وَقَدْ رُوِيَ مُتَّصِلًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ، وَمَعَ انْقِطَاعِهِ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ: يُؤْخَذُ مِنْهُ إلَى الْيَوْمِ انْتَهَى: يَعْنِي فَيَجُوزُ كَوْنُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، وَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْقِيَاسِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقولهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَلَا شَكَّ فِي صِدْقِ الْغَنِيمَةِ عَلَى هَذَا الْمَالِ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ مَحَلِّهِ مِنْ الْأَرْضِ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ، وَقَدْ أَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَكَانَ غَنِيمَةً، كَمَا أَنَّ مَحَلَّهُ أَعْنِي الْأَرْضَ كَذَلِكَ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ». أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ، وَالرِّكَازُ يَعُمُّ الْمَعْدِنَ وَالْكَنْزَ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ فَكَانَ إيجَابًا فِيهِمَا، وَلَا يُتَوَهَّمُ عَدَمُ إرَادَةِ الْمَعْدِنِ بِسَبَبِ عَطْفِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ إفَادَةِ أَنَّهُ جُبَارٌ: أَيْ هَدَرٌ لَا شَيْءَ فِيهِ وَإِلَّا لَتَنَاقَضَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَعْدِنِ لَيْسَ هُوَ الْمُعَلَّقُ بِهِ فِي ضِمْنِ الرِّكَازِ لِيَخْتَلِفَ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ، إذًا الْمُرَادُ أَنَّ إهْلَاكَهُ أَوْ الْهَلَاكَ بِهِ لِلْأَجِيرِ الْحَافِرِ لَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، لَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ نَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ أَصْلًا، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إذْ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي كَمِّيَّتِهِ لَا فِي أَصْلِهِ، وَكَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْبِئْرِ وَالْعَجْمَاءِ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْمَعْدِنِ بِخُصُوصِهِ حُكْمًا فَنَصَّ عَلَى خُصُوصِ اسْمِهِ ثُمَّ أَثْبَتَ لَهُ حُكْمًا آخَرَ مَعَ غَيْرِهِ فَعَبَّرَ بِالِاسْمِ الَّذِي يَعُمُّهُمَا لِيَثْبُتَ فِيهَا فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ: أَعْنِي وُجُوبَ الْخُمُسِ بِمَا يُسَمَّى رِكَازًا، فَمَا كَانَ مِنْ أَفْرَادِهِ وَجَبَ فِيهِ، وَلَوْ فُرِضَ مَجَازًا فِي الْمَعْدِنِ وَجَبَ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ تَعْمِيمُهُ لِعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ لِمَا قُلْنَا مِنْ انْدِرَاجِهِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ عَدَمِ مَا يَقْوَى عَلَى مُعَارِضَتِهِمَا فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، قِيلَ: وَمَا الرِّكَازُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّهَبُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خُلِقَتْ الْأَرْضُ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَذَكَرَهُ فِي الْإِمَامِ، فَهُوَ وَإِنْ سَكَتَ عَنْهُ فِي الْإِمَامِ مُضَعَّفٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ.
وَفِي الْإِمَامِ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «فِي السُّيُوبِ الْخُمُسُ» وَالسُّيُوبُ: عُرُوقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِ، وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُمَا شَاهِدَيْنِ عَلَى الْمُرَادِ بِالرِّكَازِ كَمَا ظَنُّوا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ خَصَّ الذَّهَبَ، وَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ لَا يَخُصُّهُ فَإِنَّمَا نَبَّهَ حِينَئِذٍ عَلَى مَا كَانَ مِثْلَهُ فِي أَنَّهُ جَامِدٌ مُنْطَبِعٌ، وَالثَّانِي لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ لَفْظَ الرِّكَازِ بَلْ السُّيُوبُ، فَإِذَا كَانَتْ السُّيُوبُ تَخُصُّ النَّقْدَيْنِ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إفْرَادُ فَرْدٍ مِنْ الْعَامِّ وَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَصِّصٍ لِلْعَامِّ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَعَلَى الْكَنْزِ الْجَاهِلِيِّ بِجَامِعِ ثُبُوتِ مَعْنَى الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمَأْخُوذِ بِعَيْنِهِ قَهْرًا فَيَجِبُ ثُبُوتُ حُكْمِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ وُجُوبُ الْخُمُسِ لِوُجُودِهِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ أُخِذَ فِي ضِمْنِ شَيْءٍ لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ، وَإِطْلَاقُ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ» مَخْصُوصٌ بِالْمُسْتَخْرَجِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى خُرُوجِ الْكَنْزِ الْجَاهِلِيِّ مِنْ عُمُومِ الْفِضَّةِ.
قولهُ: (فِي أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ) قَيَّدَ بِهِ لِيُخْرِجَ الدَّارَ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ، لَكِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ الْأَرْضُ الَّتِي لَا وَظِيفَةَ فِيهَا كَالْمَفَازَةِ، إذْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالصَّوَابُ أَنْ لَا يُجْعَلَ ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاحْتِرَاسِ بَلْ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ وَظِيفَتَهُمَا الْمُسْتَمِرَّةَ لَا تَمْنَعُ الْأَخْذَ مِمَّا يُوجَدُ فِيهِمَا.
قولهُ: (إلَّا أَنَّ لِلْغَانِمِينَ يَدًا حُكْمِيَّةً) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: لَوْ كَانَ غَنِيمَةً لَكَانَ أَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ لَا لِلْوَاحِدِ. فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَعْهُودٌ شَرْعًا فِيمَا لَا إذَا كَانَ لَهُمْ يَدٌ حَقِيقِيَّةٌ عَلَى الْمَغْنُومِ، أَمَّا إذَا كَانَ الثَّابِتُ لَهُمْ يَدًا حُكْمِيَّةً وَالْحَقِيقَةُ لِغَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ إعْطَائِهِمْ شَيْئًا بَلْ إعْطَاءُ الْوَاجِدِ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ أَنَّ لَهُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ فَلَزِمَ مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ اعْتِبَارُهُ غَنِيمَةً فِي حَقِّ إخْرَاجِ الْخُمُسِ لَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهِ عَدَمِ إعْطَاءِ الْغَانِمِينَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ هُوَ تَعْيِينٌ لِسَنَدِ الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَالَ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْإِيجَافِ عَلَيْهِ. وَالْمَالُ الْمُبَاحُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ نَفْسِهِ حَقِيقَةً كَالصَّيْدِ، وَيَدُ الْغَانِمِينَ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الظَّاهِرِ يَدٌ عَلَى الْبَاطِنِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً. أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِلْوَاجِدِ فَكَانَ لَهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا حُرًّا أَوْ عَبْدًا بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَالِ كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، وَكُلُّ مَنْ سَمَّيْنَا لَهُ حَقٌّ فِيهَا سَهْمًا أَوْ رَضْخًا، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَأْمَنُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لَوْ وُجِدَ فِي دَارِنَا.

متن الهداية:
(وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ مَعْدِنًا فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا فِيهِ الْخُمُسُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلَهُ أَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ مُرَكَّبٌ فِيهَا وَلَا مُؤْنَةَ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ فَكَذَا فِي هَذَا الْجُزْءِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ لَا يُخَالِفُ الْجُمْلَةَ، بِخِلَافِ الْكَنْزِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَكَّبٍ فِيهَا (وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِهِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى إحْدَاهُمَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الدَّارَ مُلِكَتْ خَالِيَةً عَنْ الْمُؤَنِ دُونَ الْأَرْضِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْعُشْرُ، وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ دُونَ الدَّارِ فَكَذَا هَذِهِ الْمُؤْنَةُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ إلَخْ) اسْتَدَلَّ لَهُمَا بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَهُوَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَقَدَّمَ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الْمَعْدِنِ، وَلَهُ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا مُؤْنَةَ فِي أَرْضِ الدَّارِ فَكَذَا فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنْهَا. وَأُجِيبَ عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالدَّارِ، وَصِحَّتُهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى إبْدَاءِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ، وَكَوْنُ الدَّارِ خُصَّتْ مِنْ حُكْمَيْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً مِنْ كُلِّ حُكْمٍ إلَّا بِدَلِيلٍ فِي كُلِّ حُكْمٍ، عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا قَدْ يَمْنَعُ كَوْنَ الْمَعْدِنِ جُزْءًا مِنْ الْأَرْضِ وَلِذَا لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ بِهِ، وَتَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ خُلِقَ فِيهَا مَعَ خَلْقِهَا لَا يُوجِبُ الْجُزْئِيَّةَ، وَعَلَى حَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ يَصِحُّ الْإِخْرَاجُ مِنْ حُكْمِ الْأَرْضِ لَا عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا التَّأْوِيلِ.
قولهُ: (رِوَايَتَانِ) رِوَايَةُ الْأَصْلِ لَا يَجِبُ كَمَا فِي الدَّارِ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَجِبُ، وَالْفَرْقُ عَلَى هَذِهِ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالدَّارِ أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تُمْلَكْ خَالِيَةً عَنْ الْمُؤَنِ بَلْ فِيهَا الْخَرَاجُ أَوْ الْعُشْرُ وَالْخُمُسُ مِنْ الْمُؤَنِ، بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنَّهَا تُمْلَكُ خَالِيَةً عَنْهَا. قَالُوا: لَوْ كَانَ فِي دَارِهِ نَخْلَةٌ تَغُلُّ أَكْوَارًا مِنْ الثِّمَارِ لَا يَجِبُ فِيهَا.

متن الهداية:
(وَإِنْ وَجَدَ رِكَازًا) أَيْ كَنْزًا (وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ) عِنْدَهُمْ لِمَا رَوَيْنَا وَاسْمُ الرِّكَازِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكَنْزِ لِمَعْنَى الرَّكْزِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَالْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ وَقَدْ عُرِفَ حُكْمُهَا فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَالْمَنْقُوشِ عَلَيْهِ الصَّنَمُ فَفِيهِ الْخُمُسُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْإِحْرَازُ مِنْهُ إذْ لَا عِلْمَ بِهِ لِلْغَانِمِينَ فَيَخْتَصُّ هُوَ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، فَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِتَمَامِ الْحِيَازَةِ وَهِيَ مِنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ وَهُوَ الَّذِي مَلَّكَهُ الْإِمَامُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ أَوَّلَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَهِيَ يَدُ الْخُصُوصِ فَيَمْلِكُ بِهَا مَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الظَّاهِرِ، كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ الدُّرَّةَ ثُمَّ بِالْبَيْعِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ لَهُ يُصْرَفُ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَالُوا وَلَوْ اشْتَبَهَ الضَّرْبُ يُجْعَلُ جَاهِلِيًّا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَقِيلَ يُجْعَلُ إسْلَامِيًّا فِي زَمَانِنَا لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَجَبَ الْخُمُسُ عِنْدَهُمْ) أَيْ عِنْدَ الْكُلِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ ذَهَبًا كَانَ أَوْ رَصَاصًا أَوْ زِئْبَقًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الزِّئْبَقِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَعْدِنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَعْدِنِ إلَّا الْحَرْبِيَّ لِمَا قَدَّمْنَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ أَنْ يَذْهَبَ بِغَنِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إلَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَشَرَطَ مُقَاطَعَتَهُ عَلَى شَيْءٍ فَيَفِي بِشَرْطِهِ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» غَيْرَ أَنَّهُ إنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ.
قولهُ: (كَالْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ) ذَكَرَهُ بِكَافٍ التَّشْبِيهِ، وَكَذَا فِي ضَرْبِ الْكُفَّارِ لِيُفِيدَ عَدَمَ الْحَصْرِ، فَلَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ نَقْشٌ آخَرُ مَعْرُوفٌ أَوْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ نَقْشٌ غَيْرُ الصَّنَمِ كَاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ الْمَعْرُوفَةِ اُعْتُبِرَ بِهِ.
قولهُ: (وَقَدْ عَرَفَ حُكْمَهَا) وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا ثُمَّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ إنْ كَانَ فَقِيرًا، وَعَلَى غَيْرِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا، وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا أَبَدًا.
قولهُ: (لِمَا بَيَّنَّا) أَيْ مِنْ النَّصِّ، وَالْمَعْنَى أَوَّلَ الْبَابِ.
قولهُ: (ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ إلَخْ) أَيْ الْكَنْزَ الْجَاهِلِيَّ لِأَنَّ الْإِسْلَامِيَّ لَيْسَ حُكْمُهُ مَا ذُكِرَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مُخْتَطَّةٍ غَيْرِ مُبَاحَةٍ فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ، أَمَّا الْمُبَاحَةُ فَمَا فِي ضِمْنِهَا مُبَاحٌ إذْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ فَيَتَمَلَّكُوهُ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ.
قولهُ: (فَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) أَيْ الْخُمُسُ لِلْفُقَرَاءِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ، سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا لِلْأَرْضِ أَوْ لَا لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ لِعَدَمِ الْمُعَادَلَةِ فَبَقِيَ مُبَاحًا فَيَكُونُ لِمَنْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، قُلْنَا لَا نَقول: إنَّ الْإِمَامَ يُمَلِّكُ الْمُخْتَطَّ لَهُ الْكَنْزَ بِالْقِسْمَةِ بَلْ يُمَلِّكُهُ الْبُقْعَةَ وَيُقَرِّرُ يَدَهُ فِيهَا وَيَقْطَعُ مُزَاحَمَةَ سَائِرِ الْغَانِمِينَ فِيهَا، وَإِذَا صَارَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا أَقْوَى الِاسْتِيلَاءَاتِ وَهُوَ بِيَدِ خُصُوصِ الْمِلْكِ السَّابِقَةِ فَيَمْلِكُ بِهَا مَا فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْمَالِ الْمُبَاحِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى أَنَّ الْغَانِمِينَ لَمْ يُعْتَبَرْ لَهُمْ مِلْكٌ فِي هَذَا الْكَنْزِ بَعْدَ الِاخْتِطَاطِ وَإِلَّا لَوَجَبَ صَرْفُهُ إلَيْهِمْ أَوْ إلَى ذَرَارِيِّهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا وُضِعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ، ثُمَّ إذَا مَلَكَهُ لَمْ يَصِرْ مُبَاحًا فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ فَلَا يَمْلِكُهُ مُشْتَرِي الْأَرْضِ كَالدُّرَّةِ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ يَمْلِكُهَا الصَّائِدُ لِسَبْقِ يَدِ الْخُصُوصِ إلَى السَّمَكَةِ حَالَ إبَاحَتِهَا، ثُمَّ لَا يَمْلِكُهَا مُشْتَرِي السَّمَكَةِ لِانْتِفَاءِ الْإِبَاحَةِ. هَذَا وَمَا ذُكِرَ فِي السَّمَكَةِ مِنْ الْإِطْلَاقِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَقِيلَ: إذَا كَانَتْ الدُّرَّةُ غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْمَثْقُوبَةِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي بَطْنِهَا عَنْبَرٌ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا تَأْكُلُهُ وَكُلُّ مَا تَأْكُلُهُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الدُّرَّةُ فِي صَدَفَةٍ مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي: قُلْنَا هَذَا الْكَلَامُ لَا يُفِيدُ إلَّا مَعَ دَعْوَى أَنَّهَا تَأْكُلُ الدُّرَّةَ غَيْرَ الْمَثْقُوبَةِ كَأَكْلِهَا الْعَنْبَرَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ. نَعَمْ قَدْ يَتَّفِقُ أَنَّهَا تَبْتَلِعُهَا مَرَّةً بِخِلَافِ الْعَنْبَرِ فَإِنَّهُ حَشِيشٌ وَالصَّدَفُ دَسَمٌ وَمِنْ شَأْنِهَا أَكْلُ ذَلِكَ.
قولهُ: (عَلَى مَا قَالُوا) يُفِيدُ الْخِلَافَ عَلَى عَادَتِهِ، قِيلَ يُصْرَفُ إلَى أَقْصَى مَلِكٍ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ، وَقِيلَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَهَذَا أَوْجَهُ لِلْمُتَأَمِّلِ.
قولهُ: (لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيَجِبُ الْبَقَاءُ مَعَ الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ خِلَافُهُ، وَالْحَقُّ مَنْعُ هَذَا الظَّاهِرِ بَلْ دَفِينُهُمْ إلَى الْيَوْمِ يُوجَدُ بِدِيَارِنَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.

متن الهداية:
(وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَوَجَدَ فِي دَارِ بَعْضِهِمْ رِكَازًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ) تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الدَّارِ فِي يَدِ صَاحِبِهَا خُصُوصًا (وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الصَّحْرَاءِ فَهُوَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يُعَدُّ غَدْرًا وَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مُتَلَصِّصٍ غَيْرِ مُجَاهِرٍ (وَلَيْسَ فِي الْفَيْرُوزَجِ يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ خُمُسٌ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ» (وَفِي الزِّئْبَقِ الْخُمُسُ) فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَوَجَدَ فِي دَارِ بَعْضِهِمْ رِكَازًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ) سَوَاءٌ كَانَ مَعْدِنًا أَوْ كَنْزًا.
قولهُ: (فِي الصَّحْرَاءِ) أَيْ أَرْضٍ لَا مَالِكَ لَهَا، كَذَا فَسَّرَهُ فِي الْمُحِيطِ، وَتَعْلِيلُ الْكِتَابِ يُفِيدُهُ.
قولهُ: (فَلَا يُعَدُّ غَدْرًا) يَعْنِي أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ إبَاحَةٍ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّحَرُّزُ مِنْ الْغَدْرِ فَقَطْ وَيَأْخُذُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ مِنْ أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لَمْ يُعْذَرْ بِأَحَدٍ بِخِلَافِهِ مِنْ الْمَمْلُوكَةِ. نَعَمْ لَهُمْ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ عَلَى مَا فِي صَحْرَاءِ دَارِهِمْ وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ دَارَ أَحْكَامٍ فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهَا إلَّا الْحَقِيقَةُ، بِخِلَافِ دَارِنَا فَلِذَا لَا يُعْطِي الْمُسْتَأْمَنُ مِنْهُمْ مَا وَجَدَهُ فِي صَحْرَائِنَا.
قولهُ: (لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مُتَلَصِّصٍ) وَلَوْ دَخَلَ الْمُتَلَصِّصُ دَارَهُمْ فَأَخَذَ شَيْئًا لَا يَأْخُذُ لِانْتِفَاءِ مُسَمَّى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا مَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ غَلَبَةً وَقَهْرًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول: غَايَةُ مَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ وَالْقِيَاسُ وُجُوبُ الْخُمُسِ فِي مُسَمَّى الْغَنِيمَةِ، فَانْتِفَاءُ مُسَمَّى الْغَنِيمَةِ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْ ذَلِكَ الْكَنْزِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْخُمُسِ إلَّا بِالْإِسْنَادِ إلَى الْأَصْلِ، وَقَدْ وُجِدَ دَلِيلٌ يَخْرُجُ عَنْ الْأَصْلِ وَهُوَ عُمُومُ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ فَإِنَّ مَا أَصَابَهُ لَيْسَ غَنِيمَةً وَلَا رِكَازًا. فَلَا دَلِيلَ يُوجِبُهُ فِيهِ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ.
قولهُ: (يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ) قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ أُصِيبَ فِي خَزَائِنِ الْكُفَّارِ وَكُنُوزِهِمْ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ وَسَيَأْتِي.
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ») غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا زَكَاةَ فِي حَجَرٍ» مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ: الْأَوَّلُ بِعُمَرَ بْنِ أَبِي عُمَرَ الْكَلَاعِيِّ. وَالثَّانِي بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ «لَيْسَ فِي حَجَرِ اللُّؤْلُؤِ وَلَا حَجَرِ الزُّمُرُّدِ زَكَاةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ».
قولهُ: (فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ) وَقول أَبِي يُوسُفَ هُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا، حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقول: لَا خُمُسَ فِيهِ، فَلَمْ أَزَلْ بِهِ أُنَاظِرُهُ وَأَقول هُوَ كَالرَّصَاصِ إلَى أَنْ رَجَعَ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَا أَنْ لَا شَيْءَ فِيهِ فَقُلْتُ بِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ الزِّئْبَقُ الْمُصَابُ فِي مَعْدِنِهِ احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرْنَا، وَالزِّئْبَقُ بِالْيَاءِ وَقَدْ يُهْمَزُ، وَمِنْهَا حِينَئِذٍ مَنْ يَكْسِرُ الْمُوَحَّدَةَ بَعْدَ الْهَمْزَةِ مِثْلُ زِئْبِرِ الثَّوْبِ وَهُوَ مَا يَعْلُو جَدِيدَهُ مِنْ الْوَبَرَةِ. وَجْهُ النَّافِي أَنَّهُ يُتَّبَعُ مِنْ عَيْنِهِ وَيُسْتَقَى بِالدِّلَاءِ كَالْمَاءِ وَلَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَصَارَ كَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ. وَجْهُ الْمُوجَبِ أَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلَاجِ مِنْ عَيْنِهِ وَيَنْطَبِعُ مَعَ غَيْرِهِ فَكَانَ كَالْفِضَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ مَا لَمْ يُخَالِطْهُمَا شَيْءٌ.

متن الهداية:
(وَلَا خُمُسَ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفُ: فِيهِمَا وَفِي كُلِّ حِلْيَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ خُمُسٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ الْعَنْبَرِ. وَلَهُمَا أَنَّ قَعْرَ الْبَحْرِ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْقَهْرُ فَلَا يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ غَنِيمَةً وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِيمَا دَسَرَهُ الْبَحْرُ وَبِهِ نَقول (مَتَاعٌ وُجِدَ رِكَازًا فَهُوَ لِلَّذِي وَجَدَهُ وَفِيهِ الْخُمُسُ) مَعْنَاهُ: إذَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ لَا مَالِكَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا خُمُسَ فِي اللُّؤْلُؤِ إلَخْ) يَعْنِي إذَا اُسْتُخْرِجَا مِنْ الْبَحْرِ لَا إذَا وُجِدَا دَفِينًا لِلْكُفَّارِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَنْبَرَ حَشِيشٌ وَاللُّؤْلُؤَ إمَّا مَطَرُ الرَّبِيعِ يَقَعُ فِي الصَّدَفِ فَيَصِيرُ لُؤْلُؤًا، أَوْ الصَّدَفُ حَيَوَانٌ يُخْلَقُ فِيهِ اللُّؤْلُؤُ، وَلَا شَيْءَ فِي الْمَاءِ وَلَا فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَيَوَانِ كَظَبْيِ الْمِسْكِ، وَالْمُصَنِّفُ عَلَّلَ النَّفْيَ بِنَفْيِ كَوْنِهِ غَنِيمَةً لِأَنَّ اسْتِغْنَامَهُ فَرْعُ تَحَقُّقِ كَوْنِهِ كَانَ فِي مَحَلِّ قَهْرِهِمْ وَلَا يَرِدُ قَهْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى الْبَحْرِ الْأَعْظَمِ وَلَا دَلِيلَ آخَرَ يُوجِبُهُ فَبَقِيَ عَلَى الْعَدَمِ، وَقِيَاسُ الْبَحْرِ عَلَى الْبَرِّ فِي إثْبَاتِ الْوُجُوبِ فِيمَا يُسْتَخْرَجُ قِيَاسٌ بِلَا جَامِعٍ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْإِيجَابِ كَوْنُهُ غَنِيمَةً لَا غَيْرُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيمَا فِي الْبَحْرِ، وَلِذَا لَوْ وُجِدَ فِيهِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لَمْ يَجِبْ فِيهِمَا شَيْءٌ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ فِيهِ دَلِيلًا وَهُوَ مَا عَنْ عُمَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ، وَقول الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ فَدَفَعَهُ بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ مُدَّعَاهُ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَخَذَ مِمَّا دَسَرَهُ بَحْرُ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ بَابِ طَلَبٍ: أَيْ دَفَعَهُ وَقَذَفَهُ فَأَصَابَهُ عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ لَا مَا اُسْتُخْرِجَ وَلَا مَا دَسَرَهُ فَأَصَابَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ مُتَلَصِّصٌ، عَلَى أَنَّ ثُبُوتَهُ عَنْ عُمَرَ لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا بَلْ إنَّمَا عُرِفَ بِطَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ رَوَاهَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْهُ: أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْعَنْبَرِ الْخُمُسَ. وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ قَالَا: فِي الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ عَامِلًا بِعَدَنَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْعَنْبَرِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ فَالْخُمُسُ وَهَذَا لَيْسَ جَزْمًا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْجَوَابِ، بَلْ حَقِيقَتُهُ التَّوَقُّفُ فِي أَنَّ فِيهِ شَيْئًا أَوْ لَا، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ غَيْرَ الْخُمُسِ، وَلَيْسَ فِيهِ رَائِحَةُ الْجَزْمِ بِالْحُكْمِ فَسَلِمَ مَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ دَاوُد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ سَمِعْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ فِي الْعَنْبَرِ خُمُسٌ. عَنْ الْمُعَارِضِ قَالَ: وَحَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ، فَهَذَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ قول مَنْ دُونَهُمَا مِمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّابِعِينَ، وَلَوْ تَعَارَضَا كَانَ قول النَّافِي أَرْجَحَ لِأَنَّهُ أَسْعَدُ بِالْوَجْهِ.
قولهُ: (مَتَاعٌ إلَخْ) الْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ غَيْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ الثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ وَالْآلَاتِ وَأَثَاثِ الْمَنَازِلِ وَالْفُصُوصِ وَالزِّئْبَقِ وَالْعَنْبَرِ، وَكُلِّ مَا يُوجَدُ كَنْزًا فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ بِشَرْطِهِ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ.


.(بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ):

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي قَلِيلِ مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ الْعُشْرُ، سَوَاءٌ سُقِيَ سَيْحًا أَوْ سَقَتْهُ السَّمَاءُ، إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ. وَقَالَا: لَا يَجِبُ الْعُشْرُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ عِنْدَهُمَا عُشْرٌ) فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْبَقَاءِ. لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَلِأَنَّهُ صَدَقَةٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ النِّصَابُ لِيَتَحَقَّقَ الْغِنَى. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَتَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالْأَوْسَاقِ وَقِيمَةُ الْوَسْقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِكِ فِيهِ فَكَيْفَ بِصِفَتِهِ وَهُوَ الْمَعْنَى وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِنْمَاءِ وَهُوَ كُلُّهُ نَمَاءٌ. وَلَهُمَا فِي الثَّانِي قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَالزَّكَاةُ غَيْرُ مَنْفِيَّةٍ فَتَعَيَّنَ الْعُشْرُ وَلَهُ مَا رَوَيْنَا، وَمَرْوِيُّهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةٍ يَأْخُذُهَا الْعَاشِرُ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ تُسْتَنْمَى بِمَا لَا يَبْقَى وَالسَّبَبُ هِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ أَمَّا الْحَطَبُ وَالْقَصَبُ وَالْحَشِيشُ فَلَا تُسْتَنْبَتُ فِي الْجِنَانِ عَادَةً بَلْ تُنَقَّى عَنْهَا حَتَّى لَوْ اتَّخَذَهَا مُقَصَّبَةً أَوْ مُشَجَّرَةً أَوْ مَنْبَتًا لِلْحَشِيشِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ أَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ وَقَصَبُ الذَّرِيرَةِ فَفِيهِمَا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِمَا اسْتِغْلَالَ الْأَرْضِ، بِخِلَافِ السَّعَفِ وَالتِّبْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَبُّ وَالتَّمْرُ دُونَهُمَا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ) قِيلَ تَسْمِيَتُهُ زَكَاةً عَلَى قولهِمَا لِاشْتِرَاطِهِمَا النِّصَابَ وَالْبَقَاءَ بِخِلَافِ قولهِ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمَأْخُوذَ عُشْرًا أَوْ نِصْفَهُ زَكَاةٌ حَتَّى يُصْرَفَ مَصَارِفَ الزَّكَاةِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي إثْبَاتِ بَعْضِ شُرُوطٍ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الزَّكَاةِ وَنَفْيِهَا، وَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ زَكَاةً.
قولهُ: (إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ) ظَاهِرُهُ كَوْنُ مَا سِوَى مَا اُسْتُثْنِيَ دَاخِلًا فِي الْوُجُوبِ، وَسَيَنُصُّ عَلَى إخْرَاجِ السَّعَفِ وَالتِّبْنِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يُمْكِنُ إدْرَاجُهُمَا فِي مُسَمَّى الْحَشِيشِ عَلَى مَا فِيهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ إخْرَاجِ الطَّرْفَاءِ وَالدُّلْبِ وَشَجَرِ الْقُطْنِ وَالْبَاذِنْجَانِ فَيُدْرَجُ فِي الْحَطَبِ، لَكِنْ بَقِيَ مَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الْأَدْوِيَةِ كَالْهَلِيلِجِ وَالْكُنْدُرِ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَشْجَارِ كَالصَّمْغِ وَالْقَطِرَانِ، وَلَا فِيمَا هُوَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ كَالنَّخْلِ وَالْأَشْجَارِ لِأَنَّهَا كَالْأَرْضِ وَلِذَا تَسْتَتْبِعُهَا الْأَرْضُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا فِي كُلِّ بِزْرٍ لَا يُطْلَبُ بِالزِّرَاعَةِ كَبِزْرِ الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مَقْصُودَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَيَجِبُ فِي الْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ وَبِزْرِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَقْصُودٌ، وَعَدَمُ الْوُجُوبِ فِي بَعْضِ هَذِهِ مِمَّا لَا يَرِدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.
قولهُ: (إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ) وَهِيَ مَا تَبْقَى سَنَةً بِلَا عِلَاجٍ غَالِبًا، بِخِلَافِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ كَالْعِنَبِ فِي بِلَادِهِمْ وَالْبِطِّيخِ الصَّيْفِيِّ فِي دِيَارِنَا، وَعِلَاجُهُ الْحَاجَةُ إلَى تَقْلِيبِهِ وَتَعْلِيقِ الْعِنَبِ.
قولهُ: (وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَكُلُّ صَاعٍ أَرْبَعَةُ أَمْنَاءٍ، فَخَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا مَنٍّ. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هَذَا قول أَهْلِ الْكُوفَةِ.
وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ:
الْوَسْقُ ثَلَاثُمِائَةِ مَنٍّ، وَكَوْنُ الْوَسْقِ سِتِّينَ صَاعًا مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ لِحَدِيثِ الْأَوْسَاقِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَلَوْ كَانَ الْخَارِجُ نَوْعَيْنِ كُلٌّ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لَا يُضَمُّ، وَفِي نَوْعٍ وَاحِدٍ يُضَمُّ الصِّنْفَانِ كَالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، وَالنَّوْعُ الْوَاحِدُ هُوَ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا.
قولهُ: (وَلَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ) كَالرَّيَاحِينِ وَالْأَوْرَادِ وَالْبُقول وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَعِنْدَهُ يَجِبُ فِي كُلِّ ذَلِكَ.
قولهُ: (لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ») رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُه: «لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ» ثُمَّ أَعَادَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ التَّمْرِ ثَمَرٌ يَعْنِي بِالْمُثَلَّثَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ بِالْمُثَنَّاةِ، وَزَادَ أَبُو دَاوُد فِيهِ: وَالْوَسْقُ سِتُّونَ مَخْتُومًا، وَابْنُ مَاجَهْ. وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا.
قولهُ: (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ») أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ»، وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَفِيهِ مِنْ الْآثَارِ أَيْضًا مَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: فِيمَا أَنْبَتَتْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ الْعُشْرُ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٍ وَعَنْ النَّخَعِيِّ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ النَّخَعِيِّ: حَتَّى فِي كُلِّ عَشْرِ دُسْتُجَاتِ بَقْلٍ أُسْتُجَةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَارَضَ عَامٌّ وَخَاصٌّ، فَمَنْ يُقَدِّمُ الْخَاصَّ مُطْلَقًا كَالشَّافِعِيِّ قَالَ بِمُوجِبِ حَدِيثِ الْأَوْسَاقِ، وَمَنْ يُقَدِّمُ الْعَامَّ أَوْ يَقول يَتَعَارَضَانِ وَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ إنْ لَمْ يَعْرِفْ التَّارِيخَ وَإِنْ عَرَفَ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ، وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ كَقولنَا يَجِبُ أَنْ يَقول بِمُوجِبِ هَذَا الْعَامِّ هُنَا لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ مَعَ حَدِيثِ الْأَوْسَاقِ فِي الْإِيجَابِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ كَانَ الْإِيجَابُ أَوْلَى لِلِاحْتِيَاطِ، فَمَنْ تَمَّ لَهُ الْمَطْلُوبُ فِي نَفْسِ الْأَصْلِ الْخِلَافِيِّ تَمَّ لَهُ هُنَا، وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْخُرُوجِ عَنْ الْغَرَضِ لَأَظْهَرْنَا صِحَّتَهُ أَيَّ إظْهَارٍ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْبَحْثُ يَتِمُّ عَلَى الصَّاحِبَيْنِ لِالْتِزَامِهِمَا الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ حَمْلِ مَرْوِيِّهِمَا عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ طَرِيقَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. قِيلَ وَلَفْظُ الصَّدَقَةِ يُشْعِرُ بِهِ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْوَاجِبِ فِيمَا أَخْرَجَتْ اسْمًا الْعُشْرُ لَا الصَّدَقَةُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ.
قولهُ: (وَلَهُمَا فِي الثَّانِي قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) رَوَى نَفْيَ الْعُشْرِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ سَوْقُهَا يَطُولُ فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَقَالَ: إسْنَادُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ. وَرَوَى الْحَاكِمُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا وَصَحَّحَهُ، وَغُلِّطَ بِأَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ يَحْيَى تَرَكَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ مُعَاذٍ مُرْسَلٌ عَنْ عُمَرَ، وَمُعَاذٌ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، فَرِوَايَةُ مُوسَى عَنْهُ مُرْسَلَةٌ. وَمَا قِيلَ: إنَّ مُوسَى هَذَا وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَّاهُ لَمْ يَثْبُتْ. وَالْمَشْهُورُ فِي هَذَا مَا رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: عِنْدَنَا كِتَابُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ» وَأَحْسَنُ مَا فِيهَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا لَكِنْ يَجِيءُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيمٍ مِنْ الْعَامِّ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْمَنْفِيَّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الْعَاشِرُ إذَا مَرَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ إلَيْهِ لَفْظُ هَذَا الْمُرْسَلِ. إذْ قَالَ نَهَى أَنْ يُؤْخَذَ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ وُجُوبِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالِكُ لِلْفُقَرَاءِ. وَالْمَعْقول مِنْ هَذَا النَّهْيِ أَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ لَيْسُوا مُقِيمِينَ عِنْدَ الْعَاشِرِ وَلَا بَقَاءَ لِلْخُضْرَوَاتِ فَتَفْسُدُ قَبْلَ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ؛ وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ أَخَذَ مِنْهَا الْعَاشِرُ لِيَصْرِفَهُ إلَى عِمَالَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ.
قولهُ: (وَالسَّبَبُ هِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ) أَيْ بِالْخَارِجِ تَحْقِيقًا فِي حَقِّ الْعُشْرِ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَبْلَ السَّبَبِ، فَإِذَا أَخْرَجَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لَوْ لَمْ نُوجِبْ شَيْئًا لَكَانَ إخْلَاءً لِلسَّبَبِ عَنْ الْحُكْمِ، وَحَقِيقَةُ الِاسْتِدْلَالِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَامِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلِ الْجُعْلِ، وَالْمُفِيدُ لِسَبَبِيَّتِهَا كَذَلِكَ هُوَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ الْخَاصُّ أَفَادَ أَنَّ السَّبَبَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِإِخْرَاجِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا مُطْلَقًا فَلَا يَصِحُّ هَذَا مُسْتَقِلًّا بَلْ هُوَ فَرْعُ الْعَامِّ الْمُفِيدِ سَبَبِيَّتَهَا مُطْلَقًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَنْعِ تَعْجِيلِ الْعُشْرِ فِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ أَجَازَهُ بَعْدَ الزَّرْعِ قَبْلَ النَّبَاتِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الثَّمَرَةِ فِي الشَّجَرِ، هَكَذَا حَكَى مَذْهَبَهُ فِي الْكَافِي.
وَفِي الْمَنْظُومَةِ خَصَّ خِلَافَهُ بِثَمَرِ الْأَشْجَارِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ السَّبَبِ نَظَرًا إلَى أَنَّ بِنُمُوِّ الْأَشْجَارِ يَثْبُتُ نَمَاءُ الْأَرْضِ تَحْقِيقًا فَيَثْبُتُ السَّبَبُ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَمْ يَتَحَقَّقْ نَمَاءُ الْأَرْضِ، ثُمَّ إذَا ظَهَرَ فَأَدَّى يَجُوزُ اتِّفَاقًا وَهَلْ يَكُونُ تَعْجِيلًا يَنْبَنِي عَلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ مَتَى هُوَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ فَلَا يَكُونُ تَعْجِيلًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَقْتَ الْإِدْرَاكِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عِنْدَ تَصْفِيَتِهِ وَحُصُولِهِ فِي الْحَظِيرَةِ فَيَكُونُ تَعْجِيلًا. وَثَمَرَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ. قَالَ الْإِمَامُ: يَجِبُ عَلَيْهِ عُشْرُ مَا أَكَلَ أَوْ أَطْعَمَ، وَمُحَمَّدٌ يَحْتَسِبُ بِهِ فِي تَكْمِيلِ الْأَوْسُقِ: يَعْنِي إذَا بَلَغَ الْمَأْكُولُ مَعَ مَا بَقِيَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْبَاقِي لَا فِي التَّأَلُّفِ. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَا يَعْتَبِرُ الذَّاهِبَ بَلْ يَعْتَبِرُ فِي الْبَاقِي خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إلَّا أَنْ يَأْخُذَ الْمَالِكُ مِنْ الْمُتْلِفِ ضَمَانَ مَا أَتْلَفَهُ فَيُخْرِجُ عُشْرَهُ وَعُشْرَ مَا بَقِيَ.
قولهُ: (وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ) أَيْ لِكَوْنِهَا السَّبَبَ، إلَّا أَنَّ سَبَبِيَّتَهَا تَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، فَفِي الْخَرَاجِ بِالنَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ فَلِذَا يَجِبُ وَيُؤْخَذُ بِمُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ وَفِي الْعُشْرِ بِالتَّحْقِيقِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا.
قولهُ: (وَقَصَبُ الذَّرِيرَةِ) نَوْعٌ مِنْ الْقَصَبِ فِي مَضْغِهِ حَرَافَةٌ وَمَسْحُوقُهُ عَطِرٌ.
قولهُ: (بِخِلَافِ السَّعَفِ وَالتِّبْنِ) وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِي التِّبْنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِزِرَاعَةِ الْحَبِّ غَيْرَ أَنَّهُ قَصَلَهُ قَبْلَ انْعِقَادِ الْحَبِّ وَجَبَ الْعُشْرُ فِيهِ لِأَنَّهُ صَارَ هُوَ الْمَقْصُودَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُقَالَ كَانَ الْعُشْرُ فِيهِ قَبْلَ الِانْعِقَادِ ثُمَّ تَحَوَّلَ عِنْدَ الِانْعِقَادِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي التِّبْنِ إذَا يَبِسَ فِيهِ الْعُشْرُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ عَلَى الْقوليْنِ)؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَكْثُرُ فِيهِ وَتَقِلُّ فِيمَا يُسْقَى بِالسَّمَاءِ أَوْ سَيْحًا وَإِنْ سُقِيَ سَيْحًا وَبِدَالِيَةٍ فَالْمُعْتَبَرُ أَكْثَرُ السَّنَةِ كَمَا مَرَّ فِي السَّائِمَةِ. (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيمَا لَا يُوسَقُ كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْقُطْنِ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يُوسَقُ) كَالذُّرَةِ فِي زَمَانِنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ فِيهِ فَاعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَ الْخَارِجُ خَمْسَةَ أَعْدَادٍ مِنْ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ. فَاعْتُبِرَ فِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ كُلُّ حِمْلٍ ثَلَاثُمِائَةِ مَنٍّ، وَفِي الزَّعْفَرَانِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ)؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (بِغَرْبٍ) الْغَرْبُ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ وَالدَّالِيَةُ الدُّولَابُ، وَالسَّانِيَةُ النَّاقَةُ يُسْتَقَى بِهَا.
قولهُ: (عَلَى الْقوليْنِ) يَعْنِي مُطْلَقًا كَمَا هُوَ قولهُ أَوْ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ.
قولهُ: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) لَمَّا اشْتَرَطَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيمَا لَا يُوسَقُ كَيْفَ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُمَا، اخْتَلَفَا فِيهِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِنْ الْحُبُوبِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ فِي الْكِتَابِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَنْ يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَعْدَادٍ: أَيْ أَمْثَالِ كُلِّ وَاحِدٍ هُوَ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ النَّوْعُ الَّذِي لَا يُوسَقُ، فَاعْتُبِرَ فِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ وَخَمْسَةُ أَمْنَاءٍ فِي السُّكَّرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَخَمْسَةُ أَفْرَاقٍ فِي الْعَسَلِ.

متن الهداية:
(وَفِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ إذَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْحَيَوَانِ فَأَشْبَهَ الْإِبْرَيْسَمَ. وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «فِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ» وَلِأَنَّ النَّخْلَ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَنْوَارِ وَالثِّمَارِ وَفِيهِمَا الْعُشْرُ فَكَذَا فِيمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا بِخِلَافِ دُودِ الْقَزِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَوْرَاقِ وَلَا عُشْرَ فِيهَا. ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ النِّصَابَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ قِيمَةُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَ قِرَبٍ لِحَدِيثِ «بَنِي شَبَّابَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ» وَعَنْهُ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ كُلُّ فَرَقٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا؛ لِأَنَّهُ أَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ. وَكَذَا فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ مِنْ الْعَسَلِ وَالثِّمَارِ فَفِيهِ الْعُشْرُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَهُوَ الْخَارِجُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (إذَا أَخَذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْحَيَوَانِ) يَعْنِي الْقَزَّ وُجُوبُ الْعُشْرِ فِيمَا هُوَ مِنْ أَنْزَالِ الْأَرْضِ.
قولهُ: (وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «فِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ») أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَهْلِ الْعَسَلِ الْعُشْرُ» وَلَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَكْذِبُ وَلَا يَعْلَمُ وَيَقْلِبُ الْأَخْبَارَ وَلَا يَفْهَمُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ يَغْلَطُ كَثِيرًا. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ» وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ الدَّوْسِيِّ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لِقَوْمِي مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَفَعَلَ، وَاسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ قَالَ: يَا قَوْمِ أَدُّوا زَكَاةَ الْعَسَلِ فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي مَالٍ لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، قَالُوا: كَمْ تَرَى؟ قَالَ: الْعُشْرُ، فَأَخَذْتُ مِنْهُمْ الْعُشْرَ فَأَتَيْت بِهِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَاعَهُ وَجَعَلَهُ فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عِيسَى بِهِ. وَرَوَاهُ الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ مُنِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدٍ، وَلَمْ يَعْرِفْ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالِدَ مُنِيرٍ، وَسُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ أَيَصِحُّ حَدِيثُهُ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَأْمُرُهُ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْعَسَلِ»، وَأَنَّهُ شَيْءٌ رَآهُ فَتَطَوَّعَ بِهِ أَهْلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ الْمُتَعِيِّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي نَحْلًا قَالَ: أَدِّ الْعُشْرَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِهَا لِي، فَحَمَاهَا» وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِيهِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى لَمْ يُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ يَصِحُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْعَنْبَرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قال: «جَاءَ هِلَالٌ أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ لَهُ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ سَلَبَةُ فَحَمَاهُ لَهُ»، فَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَتَبَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ لَهُ عُمَرُ: إنْ أَدَّى إلَيْك مَا كَانَ يُؤَدِّي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ، وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ شَاءَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ الْخَفَّافُ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ بَنِي سَيَّارَةَ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ: صَوَابُهُ شَبَّابَةَ بِعُجْمَةٍ وَبِبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ فَهْم: «كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَحْلٍ كَانَ لَهُمْ الْعُشْرَ عَنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ، وَكَانَ يَحْمِي وَادِيَيْنِ لَهُمْ»، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ عَلَى مَا هُنَاكَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوْا أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ شَيْئًا وَقَالُوا: إنَّمَا كُنَّا نُؤَدِّيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ سُفْيَانُ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: إنَّمَا النَّحْلُ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رِزْقًا إلَى مَنْ يَشَاءُ، فَإِنْ أَدَّوْا إلَيْك مَا كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمِ لَهُمْ أَوْدِيَتَهُمْ، وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَأَدَّوْا إلَيْهِ مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمَى لَهُمْ أَوْدِيَتَهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ لَهِيعَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْخَذُ فِي زَمَانِهِ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ مِنْ أَوْسَطِهَا» وَإِذْ قَدْ وُجِدَ مَا أَوْجَدْنَاك غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ الْوُجُوبُ فِي الْعَسَلِ، وَأَنَّ أَخْذَ سَعْدٍ لَيْسَ رَأْيًا مِنْهُ وَتَطَوُّعًا مِنْهُمْ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَدُّوا زَكَاةَ الْعَسَلِ. وَالزَّكَاةُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ فَيَحْتَمِلُ كَوْنَهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَوْنَهُ رَأْيًا مِنْهُ، وَحَمْلُهُ عَلَى السَّمَاعِ أَوْلَى. وَقولهُمْ: كَمْ تَرَى لَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَهُمْ بِأَنَّهُ عَنْ رَأْيٍ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ عَنْ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الرَّأْيَ فِي خُصُوصٍ مِنْ الْكَمِّيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ مَا عَلِمَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلَ الْوُجُوبِ مَعَ إجْمَالِ الْكَمِّيَّةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يَكُونُونَ قَاصِدِي التَّطَوُّعِ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْكَمِّيَّةِ أَوْ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ إذْ قَدْ قَلَّدُوهُ فِي رَأْيِهِ فَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ إذْ كَانَ رَأْيُهُ الْوُجُوبُ. ثُمَّ كَوْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَهُ مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ حِينَ أَتَاهُ بِعَيْنِ الْعَسَلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ إلَّا عَلَى أَنَّهُ زَكَاةٌ أَخَذَهَا مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ مَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا الْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِي ثُبُوتِهِ، وَفِيهِ الْأَمْرُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَدَاءِ الْعُشُورِ، وَالْمُرْسَلُ بِانْفِرَادِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَا أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُحْتَجَّ بِهِ بِانْفِرَادِهِ فَتُعَدُّ طُرُقُ الضَّعِيفِ ضَعْفًا بِغَيْرِ فِسْقِ الرُّوَاةِ يُفِيدُ حُجِّيَّتَهُ، إذْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إجَادَةُ كَثِيرِ الْغَلَطِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْمَتْنِ وَهُنَا كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ الْمَذْكُورُ مَعَ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَابْنِ مَاجَهْ، وَحَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَحَدِيثِ الشَّافِعِيِّ، فَتَثْبُتُ الْحُجِّيَّةُ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ وَرُجُوعًا وَإِلَّا فَإِلْزَامًا وَجَبْرًا، ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِيهِ. وَغَايَةُ مَا فِي حَدِيثِ الْقِرَبِ أَنَّهُ كَانَ أَدَاؤُهُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَهُوَ فَرْعُ بُلُوغِ عَسَلِهِمْ هَذَا الْمَبْلَغَ، أَمَّا النَّفْيُ عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ قِرَبٍ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «فِي الْعَسَلِ فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَزُقٍّ زِقٌّ» فَضَعِيفٌ (قولهُ لِحَدِيثِ بَنِي شَبَّابَةَ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ:
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَبِي سَيَّارَةَ وَهُوَ الصَّوَابُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَنَّ صَوَابَهُ بَنِي شَبَّابَةَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَاسْتَجْهَلَهُ الزَّيْلَعِيُّ، وَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ صَوَابًا مَعَ قولهِ كَانُوا يُؤَدُّونَ.اهـ. وَلَيْسَ هَذَا الدَّفْعُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ: إنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدُّونَ لَمْ يُحْكَمْ بِخَطَأِ الْعِبَارَةِ فَإِنَّهُ أُسْلُوبٌ مُسْتَمِرٌّ فِي أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يُؤَدُّونَ أَوْ أَنَّهُ مَعَ بَاقِي الْقَوْمِ كَانُوا يُؤَدُّونَ، بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ هُنَا لَيْسَ بِصَوَابٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَيَّارَةَ ذِكْرُ الْقِرَبِ بَلْ مَا تَقَدَّمَ إنَّ لِي نَحْلًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَدِّ الْعُشُورَ» لَا لِمَا اسْتَبْعَدَهُ بِهِ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ الْمُتَعِيَّ ثَابِتٌ، وَكَذَا بَنَى شَبَّابَةَ، وَهُوَ الصَّوَابُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَالَ بَنِي سَيَّارَةَ لَا مُطْلَقًا، فَارْجِعْ تَأَمَّلْ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْكَلَامِ الطَّوِيلِ حِينَئِذٍ.
فَرْعٌ:
اُخْتُلِفَ فِي الْمَنِّ إذَا سَقَطَ عَلَى الشَّوْكِ الْأَخْضَرِ: قِيلَ لَا يَجِبُ فِيهِ عُشْرٌ، وَقِيلَ يَجِبُ، وَلَوْ سَقَطَ عَلَى الْأَشْجَارِ لَا يَجِبُ.
قولهُ: (وَكَذَا فِي قَصَبِ السُّكَّرِ) قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: فِي قَصَبِ السُّكَّرِ الْعُشْرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَعَلَى قِيَاسِ قول أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ مَا يَخْرُجُ مِنْ السُّكَّرِ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِصَابُ السُّكَّرِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ. اهـ. وَهَذَا تَحَكُّمٌ بَلْ إذَا بَلَغَ قِيمَةُ نَفْسِ الْخَارِجِ مِنْ الْقَصَبِ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يُوسَقُ، كَانَ ذَلِكَ نِصَابَ الْقَصَبِ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ. وَقولهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِصَابُ السُّكَّرِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ يُرِيدُ فَإِذَا بَلَغَ الْقَصَبُ قَدْرًا يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَمْنَاءِ سُكَّرٍ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ عَلَى قول مُحَمَّدٍ. وَإِلَّا فَالسُّكَّرُ نَفْسُهُ لَيْسَ مَالَ الزَّكَاةِ إلَّا إذَا أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ وَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا. وَإِذًا فَالصَّوَابُ أَيْضًا عَلَى قول مُحَمَّدٍ أَنْ يَبْلُغَ الْقَصَبُ الْخَارِجُ خَمْسَةَ مَقَادِيرَ مِنْ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ الْقَصَبُ نَفْسُهُ كَخَمْسَةِ أَطْنَانٍ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْفَرَقُ بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يُسَكِّنُونَهَا، وَهُوَ مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ هُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا.
وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: إنَّهُ لَمْ يَرَ تَقْدِيرَهُ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ أُصُولِ اللُّغَةِ.
قولهُ: (إنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَهُوَ الْخَارِجُ) فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْأَرْضِ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ، كَمَا إذَا أَجَّرَ الْعُشْرِيَّةَ عِنْدَهُمَا يَجِبُ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَيْسَ عَلَى الْمَالِكِ وَعِنْدَهُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، وَكَمَا إذَا اسْتَعَارَهَا وَزَرَعَ يَجِبُ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِالِاتِّفَاقِ خِلَافًا لِزُفَرَ. هَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذْ قَدْ ذَكَرْنَا هَاتَيْنِ فَلْنَذْكُرْ الْوَجْهَ تَتْمِيمًا لَهُمَا فِي الْأُولَى أَنَّ الْعُشْرَ مَنُوطٌ بِالْخَارِجِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا وَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ. وَلَهُ أَنَّهَا كَمَا تُسْتَنْمَى بِالزِّرَاعَةِ تُسْتَنْمَى بِالْإِجَارَةِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ مَقْصُودَةً كَالثَّمَرَةِ فَكَانَ النَّمَاءُ لَهُ مَعْنًى مَعَ مِلْكِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ. وَلِزُفَرَ فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّبَبَ مِلْكُهَا وَالنَّمَاءُ لَهُ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْمُسْتَعِيرَ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الِاسْتِنْمَاءِ فَكَانَ كَالْمُؤَجِّرِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ قَامَ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي الِاسْتِنْمَاءِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْعُشْرِ، بِخِلَافِ الْمُؤَجِّرِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ عِوَضُ مَنَافِعِ أَرْضِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى زَرْعًا وَتَرَكَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فَأَدْرَكَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عُشْرُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عُشْرُ قِيمَةِ الْقَصِيلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْبَاقِي عَلَى الْمُشْتَرِي. لَهُ أَنَّ بَدَلَ الْقَصِيلِ حَصَلَ لِلْبَائِعِ فَعُشْرُهُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتْرُكْهُ وَقَصْلَهُ كَانَ عُشْرُهُ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي حَصَلَ لِلْمُشْتَرِي فَعُشْرُهُ عَلَيْهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْعُشْرَ وَاجِبٌ فِي الْحَبِّ وَقَدْ حَصَلَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا كَانَ يَجِبُ فِي الْقَصِيلِ لَوْ قَصَلَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ هُوَ الْمُسْتَنْمَى بِهِ فَلَمَّا لَمْ يُقْصَلْ كَانَ الْمُسْتَنْمَى بِهِ الْحَبَّ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا إنْ نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ كَانَ الْعُشْرُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ ضَمَانَ نُقْصَانِهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ نَمَائِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْمُؤَجِّرِ، وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَعَلَى الْغَاصِبِ فِي زَرْعِهِ. وَلَوْ زَارَعَ بِالْعُشْرِيَّةِ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَعَلَى قِيَاسِ قول أَبِي حَنِيفَةَ الْعُشْرُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ فِي الزَّرْعِ كَالْإِجَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ فَهُوَ رَبُّ الْأَرْضِ فِي قولهِمْ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ لَا يُحْتَسَبُ فِيهِ أَجْرُ الْعُمَّالِ وَنَفَقَةُ الْبَقَرِ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ فَلَا مَعْنَى لِرَفْعِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ) الْأَوْلَى أَنْ يَقول مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ كَيْ لَا يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ قَيْدٌ مُعْتَبَرٌ.
قولهُ: (لَا يُحْتَسَبُ فِيهِ أَجْرُ الْعُمَّالِ وَنَفَقَةُ الْبَقَرِ) وَكَرْيُ الْأَنْهَارِ وَأُجْرَةُ الْحَارِسِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، يَعْنِي لَا يُقَالُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي قَدْرِ الْخَارِجِ الَّذِي بِمُقَابَلَةِ الْمُؤْنَةِ بَلْ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْكُلِّ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ النَّظَرُ إلَى قَدْرِ قِيَمِ الْمُؤْنَةِ فَيُسَلَّمُ لَهُ بِلَا عُشْرٍ ثُمَّ يُعْشَرُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُؤْنَةِ بِمَنْزِلَةِ السَّالِمِ بِعِوَضٍ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ سُلِّمَ لَهُ قَدْرُ مَا غَرِمَ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ وَطَابَ لَهُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ. وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «فِيمَا سُقِيَ سَيْحًا» إلَخْ حُكْمٌ بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ، فَلَوْ رُفِعَتْ الْمُؤْنَةُ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا وَهُوَ الْعُشْرُ دَائِمًا فِي الْبَاقِي لِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ إلَى نِصْفِهِ إلَّا لِلْمُؤْنَةِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ رَفْعِ قَدْرِ الْمُؤْنَةِ لَا مُؤْنَةَ فِيهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ دَائِمًا الْعُشْرَ، لَكِنَّ الْوَاجِبَ قَدْ تَفَاوَتَ شَرْعًا مَرَّةً الْعُشْرُ وَمَرَّةً نِصْفُهُ بِسَبَبِ الْمُؤْنَةِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا عَدَمُ عَشْرِ بَعْضِ الْخَارِجِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُسَاوِي لِلْمُؤْنَةِ أَصْلًا.
وَفِي النِّهَايَةِ مَا حَاصِلُهُ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى اتِّحَادِ الْوَاجِبِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُؤْنَةِ وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ شَرْعًا فَيَنْتَفِي مَلْزُومُهُ، وَهُوَ عَدَمُ تَعْشِيرِ الْبَعْضِ الْمُسَاوِي لِقَدْرِ الْمُؤْنَةِ. بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْخَارِجَ مَثَلًا أَرْبَعُونَ قَفِيزًا فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَاسْتُحِقَّ قِيمَةُ قَفِيزَيْنِ لِلْعُمَّالِ وَالثِّيرَانِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى قول الْعَامَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْفِزَةٍ اعْتِبَارُ الْمَجْمُوعِ الْخَارِجِ، وَعَلَى قول أُولَئِكَ قَفِيزَانِ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْمُؤْنَةَ مِنْ الْخَارِجِ لَا يَجِبُ فِي قَدْرِ مُقَابَلَةِ شَيْءٍ فَلَوْ فُرِضَ إخْرَاجُ أَرْبَعِينَ قَفِيزًا فِيمَا سُقِيَ بِدَالِيَةٍ أَوْ غَرْبٍ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ قَفِيزَانِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَلْزَمُ اتِّحَادُ الْوَاجِبِ فِيمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ، وَفِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَهُوَ خِلَافُ حُكْمِ الشَّرْعِ.اهـ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ مَعْنَى الْمَنْقول عَنْهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُقَابِلُ الْمُؤْنَةَ لَا يُعْشَرُ وَيُعْشَرُ الْبَاقِي، فَيُعْشَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي فَرَضَهَا فِي النِّهَايَةِ أَوَّلًا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ قَفِيزًا لِأَنَّ الْقَفِيزَيْنِ الْأَخِيرِينَ اُسْتُغْرِقَا فِي الْمُؤْنَةِ فَلَا يُعْشَرَانِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ إلَّا خُمُسَ قَفِيزٍ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ الْمَذْكُورُ فِي النِّهَايَةِ يُفِيدُ أَنَّهُ يُرْفَعُ قَدْرُ الْمُؤْنَةِ وَهُوَ الْقَفِيزَانِ مِنْ نَفْسِ عُشْرِ جَمِيعِ الْخَارِجِ حَتَّى يَصِيرَ الْوَاجِبُ قَفِيزَيْنِ، فَأَسْقَطُوا عُشْرَ عِشْرِينَ قَفِيزًا، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْمَنْقول عَنْهُمْ، نَعَمْ إنْ كَانَ قولهُمْ فِي الْوَاقِعِ هُوَ هَذَا فَذَلِكَ دَفْعُهُ وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَالتَّصْوِيرُ الصَّحِيحُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي فَرَضَهَا أَنْ تَسْتَغْرِقَ الْمُؤْنَةُ عِشْرِينَ قَفِيزًا.

متن الهداية:
قَالَ: (تَغْلِبِيٌّ لَهُ أَرْضٌ عُشْرٍ عَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا) عُرِفَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ فِيمَا اشْتَرَاهُ التَّغْلِبِيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ عُشْرًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ عِنْدَهُ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ (فَإِنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ ذِمِّيٌّ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا عِنْدَهُمْ) لِجَوَازِ التَّضْعِيفِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ (وَكَذَا إذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ أَوْ أَسْلَمَ التَّغْلِبِيُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) سَوَاءٌ كَانَ التَّضْعِيفُ أَصْلِيًّا أَوْ حَادِثًا؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ صَارَ وَظِيفَةً لَهَا. فَتَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ بِمَا فِيهَا كَالْخَرَاجِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَعُودُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ) لِزَوَالِ الدَّاعِي إلَى التَّضْعِيفِ قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ فِي بَيَانِ قولهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَقَاءِ التَّضْعِيفِ، إلَّا أَنَّ قولهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ الْحَادِثَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ لِعَدَمِ تَغَيُّرِ الْوَظِيفَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَخْ) ضَبْطُ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى تَمَامِهِ أَنَّ الْأَرْضَ إمَّا عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً أَوْ تَضْعِيفِيَّةً، وَالْمُشْتَرُونَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ وَتَغْلِبِيٌّ فَالْمُسْلِمُ إذَا اشْتَرَى الْعُشْرِيَّةَ أَوْ الْخَرَاجِيَّةَ بَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا، أَوْ تَضْعِيفِيَّةً فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ التَّضْعِيفُ أَصْلِيًّا بِأَنْ كَانَتْ مِنْ أَرَاضِي بَنِي تَغْلِبَ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ حَادِثًا اسْتَحْدَثُوا مِلْكَهَا فَضُعِّفَتْ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَرْجِعُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ لِزَوَالِ الدَّاعِي إلَى التَّضْعِيفِ وَهُوَ الْكُفْرُ مَعَ التَّغْلِبِيَّةِ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ اشْتَرَى الْمُسْلِمُ خُمُسًا مِنْ سَائِمَةِ إبِلِ التَّغْلِبِيِّ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى شَاةٍ وَاحِدَةٍ اتِّفَاقًا. وَقول مُحَمَّدٍ فِي الْأَصَحِّ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى قولهُ فِي التَّضْعِيفِ الْحَادِثِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّضْعِيفَ صَارَ وَظِيفَةَ الْأَرْضِ فَلَا يَتَبَدَّلُ إلَّا فِي صُورَةٍ يَخُصُّهَا دَلِيلٌ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ اشْتَرَى الْمُسْلِمُ الْخَرَاجِيَّةَ حَيْثُ تَبْقَى خَرَاجِيَّةً، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يُبْتَدَأُ بِالْخَرَاجِ. وَقولهُ: زَالَ الْمَدَارُ، وَهُوَ الْكُفْرُ. قُلْنَا: هَذَا مَدَارُ ثُبُوتِهِ ابْتِدَاءً، وَحُكْمُ الشَّرْعِيِّ يُسْتَغْنَى عَنْ قِيَامِ عِلَّتِهِ الشَّرْعِيَّةِ فِي بَقَائِهِ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهَا فِي ابْتِدَائِهِ كَالرِّقِّ أَثَرَ الْكُفْرِ ثُمَّ يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ، بِخِلَافِ سَائِمَتِهِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فِي السَّائِمَةِ لَيْسَتْ وَظِيفَةً مُتَقَرِّرَةً فِيهَا، وَلِهَذَا تَنْتَفِي بِجَعْلِهَا عَلُوفَةً وَبِكَوْنِهَا لِغَيْرِ التَّغْلِبِيِّ بِخِلَافِ الْأَرَاضِيِ، وَتَقْيِيدُنَا بِالشَّرْعِيِّ فِي الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ لِإِخْرَاجِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي بَقَائِهِ إلَى عِلَّتِهِ الْعَقْلِيَّةِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَسَتَظْهَرُ فَائِدَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ التَّغْلِبِيُّ وَلَهُ أَرْضٌ تَضْعِيفِيَّةٌ، وَإِذَا اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ الْخَرَاجِيَّةَ بَقِيَتْ خَرَاجِيَّتُهُ، أَوْ التَّضْعِيفِيَّةَ فَهِيَ تَضْعِيفِيَّةٌ، أَوْ الْعُشْرِيَّةَ مِنْ مُسْلِمٍ ضُوعِفَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لَهُ أَنَّ الْوَظِيفَةَ بَعْدَ مَا قُرِّرَتْ فِي الْأَرْضِ لَا تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ عَلَى مَا عُلِمَ فِيمَا إذَا اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ خَرَاجِيَّةً لَا يُضَعَّفُ الْخَرَاجُ. وَلَهُمَا أَنَّ فِي هَذِهِ دَلِيلًا يَخُصُّهَا يَقْتَضِي تَغَيُّرَهَا وَهُوَ وُقُوعُ الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُسْلِمُ فَوَجَبَ تَضْعِيفُ الْعُشْرِ دُونَ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُسْلِمُ. فَإِنْ قِيلَ: الصُّلْحُ وَقَعَ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يَأْخُذُهُ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِقَيْدِ كَوْنِهِ مِمَّا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُسْلِمُ. فَمِمَّا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُوجِدُوا فِيهِ دَلِيلًا، وَهَذَا مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْبَابِ لِأَنَّ الصُّلْحَ جَرَى عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُؤْنَةِ الْمَحْضَةِ. قُلْنَا سَوْقُ الصُّلْحِ وَهُوَ الْأَنَفَةُ مِنْ إعْطَائِهِمْ الْجِزْيَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّغَارِ يُفِيدُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى مَا لَا يَلْزَمُهُمْ بِهِ مَا أَنِفُوا مِنْهُ فَيُقَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا، إذًا ابْتِدَاءُ الْخَرَاجِ ذُلٌّ وَصَغَارٌ وَلِهَذَا لَا يُبْتَدَأُ الْمُسْلِمُ بِهِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِمُسْلِمٍ بَاعَهَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ) يُرِيدُ بِهِ ذِمِّيًّا غَيْرَ تَغْلِبِيٍّ (وَقَبَضَهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ)؛ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْكَافِرِ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا) وَيُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ اعْتِبَارًا بِالتَّغْلِبِيِّ وَهَذَا أَهْوَنُ مِنْ التَّبْدِيلِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. هِيَ عُشْرِيَّةٌ عَلَى حَالِهَا)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤْنَةً لَهَا فَلَا يَتَبَدَّلُ كَالْخَرَاجِ، ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ: يُصْرَفُ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ (فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ أَوْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ كَمَا كَانَتْ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِتَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ إلَى الشَّفِيعِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِالرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِحُكْمِ الْفَسَادِ جَعَلَ الْبَيْعَ كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهَذَا الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقَّ الرَّدِّ (وَإِذَا كَانَتْ لِمُسْلِمٍ دَارُ خُطَّةٍ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ) مَعْنَاهُ إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ تُسْقَى بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَفِيهَا الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَدُورُ مَعَ الْمَاءِ.
الشَّرْحُ:
وَإِذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ غَيْرُ تَغْلِبِيٍّ خَرَاجِيَّةً أَوْ تَضْعِيفِيَّةً بَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا، وَلَوْ اشْتَرَى عُشْرِيَّةً مِنْ مُسْلِمٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً إنْ اسْتَقَرَّتْ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَقِرَّ بَلْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ بِفَسَادِ الْبَيْعِ أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ اسْتَحَقَّهَا مُسْلِمٌ بِشُفْعَتِهِ عَادَتْ عُشْرِيَّةً وَلَوْ بَعْدَ وَضْعِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ هَذَا الرَّدَّ فَسْخٌ فَيُجْعَلُ الْبَيْعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ بِالشُّفْعَةِ تَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ الشَّفِيعِ الصَّفْقَةُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِ، وَكَذَا إذَا رَدَّهَا بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ الْفَسْخِ، وَأَمَّا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ وَهُوَ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهَا فَصَارَ شِرَاءُ الْمُسْلِمِ مِنْ الذِّمِّيِّ بَعْدَ مَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً فَتَصِيرُ عَلَى حَالِهَا ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ، كَمَا إذَا أَسْلَمَ هُوَ وَاشْتَرَاهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ آخَرُ، وَفِي نَوَادِرِ: (زَكَاةِ) الْمَبْسُوطِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَيْبٌ حَدَثَ فِيهَا فِي مِلْكِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا عَيْبٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ فَلَا يَمْنَعُ الرَّدَّ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي النَّوَادِرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ بِالرَّدِّ بِالْقَضَاءِ لِلْمَانِعِ فَمَنْعُهُ بِأَنَّهُ مَانِعٌ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ، وَهَذَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّدَّ بِالتَّرَاضِي إقَالَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ لِلْعَيْبِ. هَذَا التَّفْرِيعُ كُلُّهُ عَلَى الْقول بِصَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً، وَهُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُضَاعَفُ عَلَيْهِ عُشْرُهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ عَلَى حَالِهَا عُشْرِيَّةً. ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ: تُصْرَفُ مَصَارِفَ الْعُشْرِ، وَفِي أُخْرَى: مَصَارِفَ الْخَرَاجِ، وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَبْقِيَتِهَا عَلَى مِلْكِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَبْقَى بَلْ يُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قول: لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا كَقولهِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا.
وَفِي قول: يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ مَعًا. وَعَنْ شَرِيكٍ: لَا شَيْءَ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى السَّوَائِمِ إذَا اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ. وَجْهُ قول الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقول بِصِحَّةِ الْبَيْعِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الْعُشْرِ وَمَالُ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ لَهُ، فَالْقول بِصِحَّتِهِ يَسْتَلْزِمُ الْمُمْتَنِعَ. وَجْهُ قولهِ الْآخَرِ أَنَّ الْعُشْرَ كَانَ وَظِيفَتَهَا فَتَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِمَا فِيهَا ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يُوَظَّفَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لِمَا نَذْكُرُ فِي وَجْهِ قول أَبِي حَنِيفَةَ فَيَجِبَانِ عَلَيْهِ جَمِيعًا. وَجْهُ قول مَالِكٍ أَنَّ مَالَهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعُشْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فِيهَا فَيَجِبُ إجْبَارُهُ عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ إبْقَاءً لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ. وَجْهُ قول مُحَمَّدٍ أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْعُشْرِ تَابِعٌ فَيُمْكِنُ إلْغَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى الْخَرَاجِ لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ تَابِعًا أُلْغِيَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ بَقَاءً. وَجْهُ قول أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَضْعِيفَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِبَلَهُ فَعَلِمَ أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا ثَبَتَ أَخْذُهُ مِنْ الذِّمِّيِّ يُضَعَّفُ عَلَيْهِ. وَجْهُ قول أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّضْعِيفُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحُكْمِ الصُّلْحِ أَوْ التَّرَاضِي كَمَا فِي التَّغْلِبِيِّينَ، وَتَعَذَّرَ الْعُشْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَإِنْ سَلِمَ كَوْنُهُ تَابِعًا فَإِنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِشَيْءٍ مِنْهَا، وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو عَنْ وَظِيفَةٍ مُقَرَّرَةٍ فِيهَا شَرْعًا بِخِلَافِ السَّائِمَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَبِهِ يَنْتَفِي قول شَرِيكٍ فَتَعَيَّنَ الْخَرَاجُ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِحَالِ الْكَافِرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِمَّا مَنَعَ بَقَاءَ الْوَظِيفَةِ فِيهِ مَانِعٌ فَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ السَّابِقُ. هَذَا ثُمَّ إلَى الْآنَ لَمْ يَحْصُلْ جَوَابُ قول مَالِكٍ أَنَّ التَّغْيِيرَ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ بَعْدَ تَعَلُّقِهِ فَلَا يَجُوزُ وَالتَّضْعِيفُ أَيْضًا إبْطَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ الْمُضَاعَفِ مَصَارِفُ الْجِزْيَةِ، وَإِبْقَاءُ حَقِّهِمْ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ مَالَهُ غَيْرُ صَالِحٍ لَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إحْدَى الْوَظَائِفِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا إخْلَاؤُهَا مُطْلَقًا وَجَبَ إجْبَارُهُ عَلَى إخْرَاجِهَا، كَمَا إذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا عِنْدَنَا يَصِحُّ، وَيُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ. فَإِنْ قُلْت: فَقول الشَّافِعِيِّ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ حِينَئِذٍ أَوَّلٌ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَتْ الْوَظَائِفُ وَالْإِخْلَاءُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْقَى فَلَا فَائِدَةَ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ ثُمَّ الْإِجْبَارُ عَلَى الْإِخْرَاجِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ نَفْيَ الْفَائِدَةِ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ إذْ قَدْ يَسْتَتْبِعُ فَائِدَةَ التِّجَارَةِ وَالِاكْتِسَابِ أَوْ قَصْدَ الْهِبَةِ فِي أَغْرَاضٍ كَثِيرَةٍ فَيَجِبُ التَّصْحِيحُ.
قولهُ: (فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجْعَلْهَا بُسْتَانًا وَفِيهَا نَخْلٌ تَغُلُّ أَكْرَارًا لَا شَيْءَ فِيهَا.
قولهُ: (لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ تَدُورُ فِي مِثْلِهِ مَعَ الْمَاءِ)، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَرَاجِيًّا فَفِيهَا الْخَرَاجُ وَإِنْ كَانَتْ عُشْرِيَّةً فِي الْأَصْلِ سَقَطَ عُشْرُهَا بِاخْتِطَاطِهَا دَارًا، وَإِنْ سُقِيَتْ بِمَاءِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ خَرَاجِيَّةً سَقَطَ خَرَاجُهَا بِالِاخْتِطَاطِ أَيْضًا، فَالْوَظِيفَةُ فِي حَقِّهِ تَابِعَةٌ لِلْمَاءِ، وَلَيْسَ فِي جَعْلِهَا خَرَاجِيَّةً إذَا سُقِيَتْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ ابْتِدَاءً تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَمَا ظَنَّهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ حُسَامُ الدِّينِ السِّغْنَاقِيُّ فِي النِّهَايَةِ، وَأَيَّدَ عَدَمَ امْتِنَاعِهِ بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو الْيُسْرِ مِنْ أَنَّ ضَرْبَ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً جَائِزٌ، وَقول شَمْسِ الْأَئِمَّةِ لَا صَغَارَ فِي خَرَاجِ الْأَرَاضِيِ إنَّمَا الصَّغَارُ فِي خَرَاجِ الْجَمَاجِمِ بَلْ إنَّمَا هُوَ انْتِقَالُ مَا تَقَرَّرَ فِيهِ الْخَرَاجُ بِوَظِيفَتِهِ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَاءُ فَإِنَّ فِيهِ وَظِيفَةَ الْخَرَاجِ، فَإِذَا سُقِيَ بِهِ انْتَقَلَ هُوَ بِوَظِيفَتِهِ إلَى أَرْضِ الْمُسْلِمِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى خَرَاجِيَّةً، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقَاتِلَةَ هُمْ الَّذِينَ حَمَوْا هَذَا الْمَاءَ فَثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ وَحَقُّهُمْ هُوَ الْخَرَاجُ، فَإِذَا سَقَى بِهِ مُسْلِمٌ أُخِذَ مِنْهُ حَقُّهُمْ، كَمَا أَنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِمْ فِي الْأَرْضِ أَعَنَى خَرَاجَهَا لِحِمَايَتِهِمْ إيَّاهَا يُوجِبُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ مُحَمَّدٌ فِي أَبْوَابِ السِّيَرِ مِنْ الزِّيَادَاتِ: بِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ وَحَمَلَهُ السَّرَخْسِيُّ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُبَاشِرْ سَبَبَ ابْتِدَائِهِ بِذَلِكَ لِيَخْرُجَ هَذَا الْمَوْضِعُ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْهُ. وَقولهُ الْوَظِيفَةُ فِي مِثْلِهِ أَيْ فِيمَا هُوَ ابْتِدَاءُ تَوْظِيفٍ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ هَذَا وَمِنْ الْأَرْضِ الَّتِي أَحْيَاهَا لَا كُلِّ مَا لَمْ يَتَقَرَّرْ أَمْرُهُ فِي وَظِيفَةٍ كَمَا فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ جَعَلَ دَارَ خُطَّتِهِ بُسْتَانًا أَوْ أَحْيَا أَرْضًا أَوْ رَضَخَتْ لَهُ لِشُهُودِهِ الْقِتَالَ كَانَ فِيهَا الْخَرَاجُ وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

متن الهداية:
(وَلَيْسَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ فِي دَارِهِ شَيْءٌ) لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الْمَسَاكِنَ عَفْوًا (وَإِنْ جَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ) وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْعُشْرِ إذْ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَيَتَعَيَّنُ الْخَرَاجُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ تَلِيقُ بِحَالِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ قولهِمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْمَاءِ الْعُشْرِيِّ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عُشْرًا وَاحِدًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عُشْرَانِ وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ، ثُمَّ الْمَاءُ الْعُشْرِيُّ مَاءُ السَّمَاءِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْبِحَارِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ أَحَدٍ، وَالْمَاءُ الْخَرَاجِيُّ مَاءُ الْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّهَا الْأَعَاجِمُ، وَمَاءُ جَيْحُونَ وَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ عُشْرِيٌّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْمِيهَا أَحَدٌ كَالْبِحَارِ، وَخَرَاجِيٌّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَّخِذُ عَلَيْهَا الْقَنَاطِرَ مِنْ السُّفُنِ وَهَذَا يَدٌ عَلَيْهَا (وَفِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ التَّغْلِبِيَّيْنِ مَا فِي أَرْضِ الرَّجُلِ التَّغْلِبِيِّ) يَعْنِي الْعُشْرَ الْمُضَاعَفَ فِي الْعُشْرِيَّةِ وَالْخَرَاجَ الْوَاحِدَ فِي الْخَرَاجِيَّةِ، لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ جَرَى عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُؤْنَةِ الْمَحْضَةِ، ثُمَّ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا كَانَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعُشْرُ فَيُضَعَّفُ ذَلِكَ إذَا كَانَا مِنْهُمْ قَالَ: (وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْقِيرِ وَالنَّفْطِ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ شَيْءٌ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَنْزَالِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هُوَ عَيْنٌ فَوَّارَةٌ كَعَيْنِ الْمَاءِ (وَعَلَيْهِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ خَرَاجٌ) وَهَذَا (إذَا كَانَ حَرِيمُهُ صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ)؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَيْسَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ) قَيَّدَ بِهِ لِيُفِيدَ النَّفْيَ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّ الْمَجُوسَ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ حُرْمَةِ مُنَاكَحَتِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ.
قولهُ: (لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الْمَسَاكِنَ عَفْوًا) هَكَذَا هُوَ مَأْثُورٌ فِي الْقَصَصِ وَكُتُبِ الْآثَارِ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الْخَرَاجَ عَلَى الْأَرْضِينَ الَّتِي تَغُلُّ وَاَلَّتِي تَصْلُحُ لِلْغَلَّةِ مِنْ الْعَامِرَةِ، وَعَطَّلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَسَاكِنَ وَالدُّورَ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُهُمْ وَتَوَارَثَهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ، وَحَكَى عَلَيْهِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ.
قولهُ: (وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ) لِأَنَّ الْعُشْرَ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَالْكُفْرُ يُنَافِيهِ.
وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: فِيمَا إذَا اتَّخَذَ الذِّمِّيُّ دَارِهِ بُسْتَانًا أَوْ رَضَخَتْ لَهُ أَرْضٌ أَوْ أَحْيَاهَا فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ، وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَعَلَى قِيَاسِ قولهِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهِمَا الْعُشْرُ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا سَقَى دَارِهِ الَّذِي جَعَلَهَا بُسْتَانًا بِمَاءِ الْخَرَاجِ حَيْثُ يَجِبُ الْخَرَاجُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهَا عُشْرَانِ عَلَى قِيَاسِ قول أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى قول مُحَمَّدٍ عُشْرٌ وَاحِدٌ كَمَا مَرَّ مِنْ أَصْلِهِمَا ثُمَّ نَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَرْضٍ اسْتَقَرَّ فِيهَا الْعُشْرُ. وَصَارَ وَظِيفَةً لَهَا بِأَنْ كَانَتْ فِي يَدِ مُسْلِمٍ.اهـ. وَقَدْ قَرَّرَ هُوَ ثُبُوتَ الْوَظِيفَةِ فِي الْمَاءِ وَهُوَ حَقٌّ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُدْفَعُ مَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ بِمَا أَوْرَدَهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (ثُمَّ الْمَاءُ الْعُشْرِي مَاءُ السَّمَاءِ) وَالْعُيُونُ وَالْبِحَارُ الَّتِي لَا يَتَحَقَّقُ وُرُودُ يَدِ أَحَدٍ عَلَيْهَا، وَمَاءُ الْخَرَاجِ مَاءُ الْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْأَعَاجِمُ كَنَهْرِ الْمَلِكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَيَحُونَ نَهْرِ التُّرْكِ وَجَيْحُونَ نَهْرِ تِرْمِذَ وَدِجْلَةَ نَهْرِ بَغْدَادَ وَالْفُرَاتِ نَهْرِ الْكُوفَةِ هَلْ هِيَ خَرَاجِيَّةٌ أَوْ لَا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَرُدُّ عَلَيْهَا يَدَ أَحَدٍ أَوْ لَا فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ نَعَمْ، فَإِنَّ السُّفُنَ يُشَدُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ حَتَّى تَصِيرَ جِسْرًا يَمُرُّ عَلَيْهِ كَالْقَنْطَرَةِ، وَهَذَا يَدٌ عَلَيْهَا فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ. قِيلَ: مَا ذُكِرَ فِي مَاءِ الْخَرَاجِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ مَاءَ الْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْكَفَرَةُ كَانَ لَهُمْ يَدٌ عَلَيْهَا ثُمَّ حَوَيْنَاهَا قَهْرًا وَقَرَرْنَا يَدَ أَهْلِهَا عَلَيْهَا كَأَرَاضِيِهِمْ، وَأَمَّا فِي مَاءِ الْعُشْرِ فَلَيْسَ بِظَاهِرِ فَإِنَّ الْآبَارَ وَالْعُيُونَ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ وَحَوَيْنَاهَا قَهْرًا خَرَاجِيَّةٌ، صَرَّحُوا بِذَلِكَ مُعَلِّلِينَ بِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ وَعَلَّلُوا الْعُشْرِيَّةَ بِعَدَمِ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهَا فَلَمْ تَكُنْ غَنِيمَةً وَلَا يَتِمُّ هَذَا إلَّا فِي الْبِحَارِ وَالْأَمْطَارِ، ثُمَّ قَالُوا فِي مَائِهِمَا: لَوْ سَقَى كَافِرٌ بِهِمَا أَرْضَهُ يَكُونُ فِيهَا الْخَرَاجُ بَلْ الْبِحَارُ أَيْضًا خَرَاجِيَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَاءُ الْمَطَرِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْكَافِرَ إذَا سَقَى بِهِ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَرْضٍ عُشْرِيَّةٍ اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ الَّتِي كَانَتْ حِينَ كَانَتْ الْأَرْضُ دَارَ حَرْبٍ خَرَاجِيَّةً لَا يَنْفِي الْعُشْرِيَّةَ فِي كُلِّ عَيْنٍ وَبِئْرٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ احْتَفَرَهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ صَيْرُورَةِ الْأَرْضِ دَارَ إسْلَامٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ التَّعْمِيمُ فَإِنَّ مَا نَرَاهُ مِنْهَا الْآنَ إمَّا مَعْلُومُ الْحُدُوثِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا مَجْهُولُ الْحَالِ، أَمَّا ثُبُوتُ مَعْلُومِيَّةِ أَنَّهُ جَاهِلِيٌّ فَمُتَعَذِّرٌ، إذْ أَكْثَرُ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِمْ قَدْ دُثِرَ وَسَفَتْهُ الرِّيَاحُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ إلَّا قول الْعَوَامّ غَيْرَ مُسْتَنِدِينَ فِيهِ إلَى نَبْتٍ فَيَجِبُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا نَرَاهُ بِأَنَّهُ إسْلَامِيٌّ إضَافَةً لِلْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ وَقْتَيْهِ الْمُمَكَّنَيْنِ وَيَكُونُ ظُهُورُ الْقِسْمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَقْي الْمُسْلِمِ مَا لَمْ تَسْبِقْ فِيهِ وَظِيفَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (فِي عَيْنِ الْقِيرِ) هُوَ الزِّفْتُ وَيُقَالُ الْقَارُ، وَالنَّفْطُ دُهْنٌ يَعْلُو الْمَاءَ.
قولهُ: (وَهَذَا إذَا كَانَ حَرِيمُهَا صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ) ثُمَّ يَمْسَحُ مَوْضِعَ الْقِيرِ فِي رِوَايَةٍ تَبَعًا، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَمْسَحُ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ.
فَرْعٌ:
لَا يُجْمَعُ عَلَى مَالِكِ أَرْضٍ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ لِمَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُجْمَعُ عَلَى مُسْلِمٍ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضٍ» وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ إذْ قَدْ فَتَحُوا السَّوَادَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ قَطُّ جَمْعُهَا عَلَى مَالِكٍ.